الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

إياد فؤاد عبدالحي - مذكرات مُقيم...!!

إياد فؤاد عبدالحي - مذكرات مُقيم (1-3)
الرشفة الأولى..
.. لم أكن أتصور يوماً أني سأغادرك يا (مكتي) وأنا الذي لم أخرج منك قط طيلة سبعة عقود من الزمن... ما أتعسني في هذا المشهد ويالكآبة الصورة حين رسمتني على ظهر سفينة (ترحيل) عن بقعة ظننتني منها، وظننتها كل الحياة..!.. جئت إليك قبل أن أعيش..! ومن كان يظن أن الموت سيلقاني بعيداً عنك..!.. كم نظرت لنفسي أني حجر ألقى به سيل بين أوديتك فاستقر، أو كأني قطرة ماء رمتها سحابة فأبت أن تعود لأخرى..!.. أبعد شيب شعري وانحناء ظهري وانقضاء عمري ودهري أخرج منك يا مكتي..؟ أغادرك..! أرحل عنك..!.. من كان يقول هذا..؟ ومن يصدق مثل هذه الحكاية..!!.. لم أتجاوز الخامسة يوم أن حط جسدي رحاله في مكة المكرمة قادماً من إحدى بلاد القارة المظلمة، ولا أعلم أيها بالضبط، ولكن لوني وتضاريس ملامحي كانت تقول أني من سلالة الجد (حام) بالتأكيد..! جئت برفقة أبي وأمي وبالتأكيد كانت القبلة الكعبة والنية الحج، هكذا جاءت تفاصيل الحكاية أو ما تبقى منها في تلك المساحة الملئى بالظلال وصدى الأصوات، حكاية لم تُبق عقود الزمن المتتالية ولم تذر منها سوى قليل من ملامح ذاك الرجل الذي احتضن صرخة تيهي بين الجموع فصار يُردد بأعلى صوته: (ولد مين دا يا جماعة)..!.. وجدتني أترعرع عند أسرة تحمل لوناً غير لوني وملامحاً غير ملامحي، لم أكن أعي من كلمهم إلا الإشارة، ومع الأيام الأولى ضم قاموسي الكثير من الكلمات الحبلى بالمشاعر، كلمات كان أولها (أبويا) و(أمي)..!.. كنت أنادي أخي الأصغر باسم دلعه (حمتو) وكان اسمه (أحمد)، وكنت حين أخاطب أخي الأكبر محمود لابُد أن أسبق اسمه بلفظ (أخويا) احتراماً وتقديراً..! أما أختي الكبيرة فاطمة فكان البروتوكول المكاوي يُحتم عليَّ أن أناديها بـ (إستيتة)، وكم كانت تطرب وأنا أقول لها بلساني المتعرج في بدايته (إستيتة فتو)..!.. كانت مناطق لهوي ولعبي ما بين (المشاية) و(الدهليز) و(الخارجة).. وكانت الألعاب مثيرة كأسمائها.. فـما بين (شرعت) التي كانت تستنفذ طاقتنا بالجري فيها، و(أوادم) التي كُنا نحاكي الكبار بالعيش في تفاصيلها، و(الغميمة) التي تبدأ بالاختباء وتنتهي بوصول أحدهم لـ (العزيزة) كنا نقضي جُل أوقاتنا..!.. ما أجمل التنقل بين البيوت في تلك الفترة، فالباب دوماً مفتوح، والابتسامة أول ما يُصادفك، لم أشعر يوماً أني خرجت من بيت لآخر، بل كان الأمر كأن تنتقل من حجرة لأخرى..! كنت دوماً ما أحمل (التبسي) لجارتنا خالة (سعدو)، وخالة مريم، وخالة زينب وكوثر و..! ولا أذكر أني عُدت و (إيدي فاضية)، كانت السفرة حبلى دوماً بما لذ وطاب من نَفـَس ستات الحارة.
الرشفة الثانية..
.. بالمناسبة كانت حارتي (المسفلة) وتحديداً كان بيتنا مُطلاً على بركة (ماجد) ولم أسأل يوماً من هو (ماجد) هذا..! وبعد حين عرفت أن الاسم محرف من (ماجل) إلى ماجد، والأولى تعني مكان تجمع المياه... إن سألتموني عن أبرز مزايا المجتمع المكاوي من حينها وحتى وقتنا الحالي لأجبتكم بـ (تقبلهم للآخر).. فالآخر في المجتمع المكي أياً كان يجد نفسه بعضاً من كل، وعوداً في حزمة... ما أصدق من قال (لا غربة في مكة)، فالحكاية دوماً ما تبدأ بـ (اتفضلوا) لتستمر بعبارة (نشوفك) و (مُرَّنا) و(لا تقطعنا يا هو)..!.. من أبرز معالم مكة المكرمة الانسانية (العُمدة) و (كُبارية الحارة)، وأكثر الأماكن عبقاً فيها (المراكيز) المتناثرة هنا وهناك..!.. كنت (أُسيّر) على جُل مراكيز الحارة في بدايات عقدي الثاني، أتنقل بين مركاز وآخر، وما بين هذا وذاك قواسم مشتركة وأخرى إن وجدتها في مركاز قد لا تجدها في آخر..!.. مركاز العمدة كان حلاً وربطاً للأمور، تأتي المُشكلات إليه بصَحبها وعلامات الوجوم تخيم على ملامحهم، وما هي إلا هنيهة وقت يعود بعدها الماء لمجراه، وعلى طريقة (صافية لبن.. حليب يا قشطة)..!.. كم كان المركاز عامراً بالنخبة، كنت أسمع القصص من العم محمود وكأنه يقرأ من كتاب، وكنت أحفظ الشعر من العم عباس وكم كان عذباً من فيه، وكنت (أفطس) ضاحكاً من قفشات العم عيد خاصة وهو يقعد (ركبة ونص) لشطحات العم مرزوق..!.. كانت البساطة سمة، والألفة ميزة، والود دوماً حاضر، والتواصل لا يغيب، والقلوب عامرة بالحب، والتعامل يسوده الاحترام... كانت كلمة (عيب) موجودة دوماً وحاضرة باستمرار، تقال للصغير بنبرة (التأديب)، ويُهمس بها في أذن الكبير (تذكيراً)، كانت كخط أحمر ممنوع تجاوزه البتة... من أكثر التعابير الدارجة على ألسنة (المكاكوة) في تلك الحقبة عبارة (ما عندو هديك الهرجة)..! تعبير (رمزي) بسيط يحمل بين طياته الكثير من التأدب في الحديث عن مساوئ الآخر..!.. فإن كان الآخر كثير الكذب، أو دائم الخداع، أو قليل الوفاء، أو معدوم المروءة مثلاً.. كان الآخر يصفه بعبارة (ما عندو هديك الهرجة)..! أي أنه لا يملك الصدق أو الوفاء أو المروءة..!.. يا لبساطة التعبير.. ويالأدب الوصف..! لم تكن الآذان قبل الألسن قادرة على إداراج سيء الصفات في تراكيبها اللفظية، كانت تستعيض عن ذلك بهذه العبارة..! .. إنه الأدب المكي يا سادة.. والباري يحفظكم ويرعاكم.
.. يتبع...،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق