الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

أضغاث واقع..! قــصـــــــة قـصيــــــــرة بقلم/ إياد عبدالحي...،

أضغاث واقع..!

لم يتوقع أن يتحرك قلبه بعد كل تلك المدة من السكون، أبَعدَ ذاك الصمت يأتي الكلام..! أيقظة من بعد ذاك السبات..!

ظن أنه يحلم كعادته حين رأى طيفها، لم يصدق أن عينيها قد ضحكت له..! ظن أنه قد أضحى رفاتاً لحين.. إلا أنها بعثته من بين الأجداث بنظرة قالت له عبرها: إني أراك..!

دق قلبه.. وما أقسى الدقة الأولى بعد طول ممات..! أخرجته إلى الحياة كما الشعاع وقد فتق ثقباً في ردهة من ظلام..!

طال وقوفه أمام المرآة وقد بحث عنها طويلاً قبل أن يجدها في منزله..! كان قد هجرها مع أول شعرة بيضاء أعلنت استسلامه للزمن..! وكم أتعسته مهمة البحث عن شعرة سوداء في وقفته الأخيرة أمام هذه المرآة..!
أغرق ملبسه بالسواد، فالعتمة تخفي كثيراً من تضاريس الزمن، ولم ينس أن يسكب عليه زجاجة من عطر التقطها من حجرة ابنه..!

أدار محرك عربته، ومن بعده جهاز التكييف وعلى أعلى درجة على غير عادته..! كان يحس بحرارة داخلية تصاعدت منها أبخرة من رأسه وتبللت من عرقها أطرافه..! بحث عن منديل فلم يجد، أزعجته الفوضى العارمة داخل عربته..! قوارير مياه فارغة، حبات مسبحة مفروطة، كوب قهوة الصباح وقد امتلأ ببقايا سجائره، أوراق هنا وهناك، وكومة من الغبار غطت كامل العربة من الداخل والخارج..! نظر لساعته.. لم يكن من وقت كاف لإصلاح ما أفسده دهره..! ردد بينه وبين نفسه: تباً لي..!

ظلت نظرته تتهندل ما بين بوابة منزلها وبين مرآة عربته، كم أزعجته تلك التجاعيد التي استقرت تحت عينيه..! هذب شاربه للمرة الألف، واختبر بسمته التي فارقها منذ زمن ليس باليسير..!

بدت له وقد أقبلت عليه بخطوات تصرخ بالأنوثة وكأنها كل تلك النساء اللاتي زرن مخيلته، لم يدر بخلده حيناً أن كل تلك الأحلام ستجتمع في واقع واحد..! خفق قلبه بشدة وكاد أن يخرج من بين أضلعه و..

مدت يدها لتصافحه وانتظرته كثيراً قبل أن يمد لها يده..! بدا الارتباك واضحاً على تقاسيم وجهه، أحست بذلك فاحتوت كفه بكفيها وقالت: ما بك..؟

لم تكن تعلم أنه كمن وقع من برج لامس السماء على أسحق نقطة في الأرض ووجد نفسه بخير..! أو كأنه ذاك الغريق الذي التهمه البحر وما زال يتنفس..! قال لها بصوت بالكاد خرج منه: وحشتيني..!

لم تكن تعلم أن سريرته قد انتقت الكلمة الأكثر صدقاً في موقفه هذا..! فندتها كمجاملة فردت عليه بمثلها: وانت أكثر..! التفت نحوها بكل ما فيه ومد من عينيه نظرة تلهف إلى عينيها ولم يقل شيئاً..! أربكها الموقف فعادت للسؤال ذاته: ما بك..؟

لم تكن تعلم أنه حين قال لها (وحشتيني) كان يقصد الكلمة بكل ما فيها، لم تكن تعلم أنه قد انتظرها عمراً بأسره، لم يخطر ببالها قط أنها على موعد قد سطرته أجندته من قبل عقود من الزمن، كم طال انتظاره، وكم أعيته النظرة لساعة العمر، وكم أرهقته عقاربها وقد دارت ببطء متسارع دون أن تدق جرس اللقاء..!

مدت يدها نحو علبة اصطفت فيها بضع اصطوانات تسجيل وراحت تبحث فيها عن كثب، ثم قالت:

- ألا تسمع لغيرها..؟
ابتسم..! وقال:

- وهل غنى غيرها..!

أعادت العلبة لمكانها بهدوء وقالت:

- أنا لم أسمعها قط..!

تفاجأ من ردها..! ومن ثم مدَّ يده نحو العلبة قائلاً:

- إذن هي فرصة..!

قطعت الطريق على يده بقولها:

- لم أقصد.. بل إني قصدت أني لا أحب سماعها..!

ارتفع حاجباه وكاد أن يُسجل اعتراضاً واستنكاراً شديدي اللهجة على ذائقتها، إلا أن عقرب الزمن زجره بلسعة ذكره فيها بفرق العمر بينه وبينها..! كل شيء قد تغير.. ففي ماضيه كانت النغمة توافق مشية عقرب الزمن الرصينة المبالغة في الهدوء، أما الآن فخطوة الوقت بالكاد تحط أقدامها وكأنها تهرب من ماض أرقها صوته.. أو كأنها تهرع صوب مستقبل لا تراه..!

طلبت منه التوقف بجوار أحد المراكز التجارية، ونزلت ومن ثم عادت وفي يدها اسطوانة على غلافها صورة لمسخ شاب..! أو هكذا هو رآها..! فأخرجتها من العلبة وأدخلتها في جهاز التسجيل وقالت له: ألم تسمع قط لـ ..... ؟؟ ولم تنتظر جواباً منه، فقد رفعت الصوت لآخر درجاته..!

تقيأت أذنه مما سمع..! ووأد كل مشاعر الانزعاج داخله، وحاول مستميتاً أن يرسم ابتسامة رضى، وكم أعياه إبهامه وقد مثل به طربه وانسجامه بدقه على مقود العربة..! أما هي فقد كانت على سفح النشوة، تتراقص ملامحها حتى كادت أن تقفز منها..! أطفأت جهاز التكييف وفتحت النافذة عن آخرها فتطايرت خصلات شعرها في كل الاتجاهات وكأنها على ظهر حصان خلف فارس عمرها..!

وكم أعيت الفارس أرض المعركة..! اختلفت عليه كثبانها، لم يعرف أياً من أوديتها، لم يملك خارطة لطريق واحد فيها..! ظهرت له بملامح أخرى غير تلك التي كان يعرفها..! في ماضيه كانت النزالات بين العشاق تدار بالنظرة، وتحتدم بالكلمة، وتتضرج ساحتها باللمسة..! أما الآن.. سحقاً للآن..! هكذا ردد بينه وبين نفسه..! وظل يرددها بأعلى صوته دون أن ينبس ببنت شفة إلى أن وصل للمطعم..!

على الطاولة انتابه شعور غريب لم ينتابه قط..! كان يتلفت صوب الآخر مستقرئا نظرته إليه.. يتساءل في داخله عما يقوله هذا الآخر عنه..؟ جد مع حفيدته..؟ أم أب مع أصغر بناته..؟ أم بغل شاخ ظهره فاختارته هذه الحسناء لإيصالها نحو ما تريد..!! تباً للآخر.. سحقاً للزمن.. لن أكترث.. لن أهتم.. سأعيش اللحظة رغماً عنهم..!
قالت له:

- أأنت دائم الصمت..؟

ارتبك من سؤالها وقال:

- لا.. ولكنها المرة الأولى..

أجابت بخبث أو تهكم أو جمعت بين الاثنين في عبارة:

- ربما تقصد بعد طول غياب..!!

ركز نظرته هذه المرة في عينيها وقال ببراءة مستسلمة:

- أبداً.. صدقيني.. إنها المرة الأولى..!

أطالت النظر فيه، حاولت أن ترسم في مخيلتها صورة لتفاصيله الماضية، وجدته شاباً طويل القامة، عريض المنكبين، قوي البنية، جميل الملامح، تجمعت جاذبيته في عينيه..! حدقت فيهما وكأنها تستنطق ماضيه..! أمعقول أن تكون المرة الأولى..؟ أمن الممكن أن يكون صادقاً..؟ إذن ماذا عن زوجته..؟ وكيف كان به الحال قبل زواجه..؟ حسناً.. إنه يكذب.. أو يراوغ.. أو يحاول أن يكون لطيفاً..! أو على الأقل لم تأت بعد ساعة الصراحة بيني وبينه..!

- أنا لم أتزوج إلا على الورق..! وربما على السرير كي أكون أكثر صدقاً معك..! فزوجتي وأنا لم نتوفق في أن نتزاوج في غير هذين المكانين..!

- تقصد الورق والسرير..؟

- نعم.. أما الورق فكان عبر زواج (الغميمة) أو (شختك بختك) الذي يُكتب على الزوجين فيه انتظار

الحب مع الآتي من الأيام..! فإن أتى (فالخير وأهله).. وإن لم يأت (فكل يعرف طريقه)..!

- ولم يأت المدعو حب..؟

- لم يتحرك أصلاً كي يصل..!

- ولماذا لم تنفصلا..؟

- لأن الطفل قد أتى، ومن بعده طفل آخر، ومن بعده أطفال..!

قالت بخبث صاف هذه المرة:

- وكيف لا يأتي الأطفال ونظرية الورق والسرير قائمة..!

- ومن قال أن السرير لا يجمع إلا بين الحبيبين..؟

أحست بأنها لامست منطقة محظورة أو أنها سكبت زيتاً على نار متقدة، فغيرت مسار الحوار:

- ولماذا لم تبحث عن غيرها..؟

- لأني لم أجدك..!

- وهل بحثت..؟

- في كل أنثى صادفتها..!

- ولم تجدني في كل تلك الإناث..؟

- لم أجدك إلا فيك.

- أنت تبالغ.. فأنت بالكاد عرفتني، بل إن لقاءنا هذا هو الأول، أنت لا تعرف عني شيئاً البتة، حتى أنك غير متأكد من اسمي..!

- أحبك.

- منذ متى..؟

- منذ أن خلقت..!

- وإن لم أحبك..؟

- سأظل أحبك.

- وإن ارتبطت بغيرك..؟

سكت.. واختفت نظرته تحت جفنيه بعد أن أغمض عينه وقطب حاجبيه بألم آلمها فأشفقت عليه وقالت وقد احتوت كفه بكفيها:

- لاحظ أني أقول (إن)..!

- اسمعي يا جارة.. قد عشت ردحاً من زماني أظنه أغلبه وأنا أنتظرك.. ولست أخال الذي بقي كالذي فات، وما بين ساعة انتظار وساعة فراق إلا وهلة من الزمان أستحلفك بأغلى ما عندك أن تهبيني إياها..! دعي عنك ما مضى من سنوات عمري، وأتركي مستقبل الأيام يأتي لنا دون (لو) أو (إن)..! أتركيني أحياك وأعيش فيك، دعيني أحبك ولو لوهلة في زمن حلف عليَّ أن لا أحب..!

أخذته من يده واتجهت به إلى هناك.. ورقصا إلى آخر أنفاس الليل..!

في اليوم التالي استيقظ على غير العادة (مبتسماً)..! مما دعا زوجته أن تسأله عن سر ذاك..؟ فقال لها بعد دقيقة من صمت:

- أضغاث أحلام.. وربما واقع..! من يدري..؟؟!!

إيـــــاد عبدالحي ..،

حقوق الطبع والنشر لدار آبا - بيروت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق